عانت مصر لسنوات طويلة من انتشار الأعمال الإرهابية والعنف المسلح بشكل واسع النطاق والذي ترجع بداياته لعام 1981 تاريخ واقعة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على أيدي جماعة الجهاد، ومن قبلها أحداث الفنية العسكرية عام 1974 فقد حاول بعض أعضاء حزب التحرير الإسلامي القيام بمحاولة انقلابية عسكرية ضد نظام الرئيس السادات بالاستيلاء على الكلية الفنية العسكرية بالقاهرة ولكنها أجهضت وتغلب عليها الأمن المصري، بل وتم إعدام أعضاء حزب التحرير .
بعد انفصال الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد عام 1983، مرت الجماعة الإسلامية بفترة من العمل العلني الدعوي امتدت حتى عام 1988، وخلال هذه السنوات أحرزت نجاحا كبيرا، وخلال تلك بدأت تتبلور فكرة المواجهة مع الدولة من خلال أدبيات أشهرها كتاب «ميثاق العمل الإسلامي» الذي كتبه ناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة، وأبحاث أخرى مثل: «حتمية المواجهة»، و«وجوب قتال الطائفة الممتنعة». وحسب الدكتور محمد مورو فإن محاولتي اغتيال وزيري الداخلية السابقين اللواء حسن أبو باشا، واللواء زكي بدر ثم محاولة اغتيال الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد (1987) كانت من أم أسباب الصدام. إذ تعرضت الجماعة الإسلامية عقب هذه الحوادث إلى حملة اعتقالات.
وفي الثاني من أغسطس عام 1990 اغتالت أجهزة الأمن الدكتور علاء محي الدين المتحدث باسم الجماعة الإسلامية، ودارت عجلة العنف فأصدرت الجماعة بيانا جاء فيه: «آن الأوان ليسكت الكلام ويتكلم الرصاص». وتبادل الطرفان حوادث الاغتيال، فاغتالت الأجهزة الأمنية عددا من قيادات الجماعة وردت الجماعة باغتيال عدد كبير من رجال الشرطة في القاهرة ومحافظات جنوب مصر . وجاءت عملية الدير البحري بالأقصر في السابع عشر من نوفمبر عام 1997 لتكون نهاية مأساوية لقصة دامية سقط فيها عدد كبير من القتلى من الطرفين.
سرقة الذهب للتمويل
لجأ تنظيم الجماعة الإسلامية لاستمرارية نشاطه إلى كسب الأعضاء الجدد، كما لجأ إلى طرق مختلفة أخرى للتمويل مثل إقامة أسواق خيرية لبيع السلع وبيع الكتب الدراسية والدينية والزي الإسلامي للطالبات, وتطورت الحاجة للتمويل، وبناء على فتاوى استحلال أموال النصارى المحاربين كانت أولى العمليات القتالية للتنظيم بالاستيلاء على المشغولات الذهبية ببعض محلات بيع الذهب التي يملكها نصارى بمدينة نجع جمادى في صعيد مصر والاستيلاء أيضا على إيراداتها المالية.
وقاد تلك العملية علي الشريف حيث جرى اقتحام محلين للذهب على النحو الذي سبق ذكره، وفي ضوء تصاعد وتيرة الخلاف بين السادات والتيار الإسلامي في عمومه وإصداره قرارات التحفظ على العديد من قيادات وأعضاء هذا التنظيم جاءت عملية اغتيال السادات في السادس من أكتوبر 1981 وبعد اغتيال السادات، اتفق جناح الوجه القبلي للجماعة الإسلامية على مواصلة العمل الرامي لقلب نظام الحكم باستهداف خمسة أهداف للأمن في أسيوط هي مديرية الأمن هناك وقسم ثان والدورية اللاسلكية ومباحث أمن الدولة والمباحث الجنائية ونقطة شرطة إبراهيم، ثم الزحف بعد ذلك لمحافظات الوجه البحري وتثوير الجماهير.
وقاد العملية علي الشريف وعاصم عبد الماجد، وتم اقتحام مديرية الأمن وقتل فيها عدد كبير من الضباط والجنود وتم فتح النار أيضا على بعض سيارات الأمن المركزي التي كانت تحمل الجنود في الميادين والشوارع العامة بأسيوط، كما تم اقتحام نقطة شرطة إبراهيم، لكن إصابات دربالة التي أدت لبتر يده اليمنى وعلي الشريف في بطنه إصابات شديدة أدت إلى فشل المخطط والقبض عليهم أحياء ومعهم كرم زهدي وترحيلهم في طائرة خاصة للقاهرة بصحبة وزير الداخلية آنذاك اللواء النبوي إسماعيل.
وكان اغتيال الدكتور علاء محيى الدين الناطق الرسمي للجماعة عام 1990 دافعا للجماعة في استمرار عمليات الثأر والانتقام ضد رموز النظام المصري. فبادرت باغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك، وكان ممدوح علي يوسف أحد أبرز قيادات الجماعة هو المتهم الأول في قضية اغتيال المحجوب.
وخلال فترة التسعينيات شهدت مصر محاولات اغتيال مختلفة لمسؤولين سياسيين من بينها محاولة اغتيال وزير الإعلام المصري السابق «صفوت الشريف» ورئيس الوزراء الأسبق «عاطف صدقي»، كما تعرض عدد من الكتاب والأدباء والمثقفين أيضاً لمحاولات اغتيال، فقد حاول بعض العناصر الإرهابية اغتيال الأديب المصري المشهور «نجيب محفوظ» الذي توفى مؤخرا، في حين نجحت في اغتيال الكاتب الدكتور فرج فودة، بالإضافة إلى الحوادث الإرهابية المتعددة التي شهدتها مصر ولاسيما في جنوب البلاد خلال هذه الفترة، ومن بين تلك الأحداث جريمة اقتحام كنيسة «مارجرجس» بأي قرقاص في فبراير1996، مما أسفر عن مصرع ثمانية من الأقباط، وكذلك الهجوم السافر الذي شنه إرهابيون على قرية بهجورة في مارس 1997 والذي أدى إلى مقتل 14 شخصاً من بينهم تسعة من الأقباط، وهناك واقعة الاعتداء على متحف التحرير في سبتمبر1997 والتي أسفرت عن مصرع 9 من السائحين الأجانب .
فكر يؤدي للعنف
يقول الدكتور ضياء رشوان الخبير في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام وأحد البارزين في دراسة الجماعات الإسلامية أن مصر شهدت موجتين إرهابيتين، الأولى موجة ممتدة وهذه بدأت باغتيال الرئيس السادات، وانتهت عام 1997. وعلى خلاف الموجات التى تبدأ من تحت وتصعد، فهذه الموجة بدأت من القمة، وكانت هناك أسباب سياسية وعامة فى المجتمع أدت إلى ذلك، ثم هدأت هذه الموجة. وبين عامى 81 و87، لم نشهد سوى أحداث طفيفة، ثم بدأت تشتد مرة أخرى منذ عام 87 بمحاولة اغتيال الكاتب الصحفى الأستاذ مكرم محمد أحمد، ثم محاولة اغتيال وزير الداخلية النبوى إسماعيل، وقويت بشدة عام 1992، بأحداث الصعيد مع الأقباط، واستمرت إلى نوفمبر 97 وهو تاريخ مذبحة الأقصر، وكانت تتسم بشكل محدد، هو أن القائمين عليها هما الجماعة الإسلامية والجهاد، الجماعتان الكبيرتان في مصر للعنف الإسلامى.
ويضيف رشوان : أن الجماعة الإسلامية قامت بأكثر من 95% من الأحداث، والجهاد قامت بـ 5% فقط، وقد انطلقت الجماعتان من مبدأ واحد وهو الجهاد الداخلي ضد العدو القريب، ممثلا في الحكومة المصرية، وبالتالي، كانت الفكرة الانقلابية هي المسيطرة عليها، أي الاستيلاء على الحكم بالقوة. وكانت الأهداف التي يتم التعامل معها بالأساس أهدافا حكومية سواء كانوا مسؤولين كبارا مثل محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء ووزير الإعلام ووزير الداخلية، أو برجال الشرطة أو بضرب صناعة السياحة. وكان الهدف الرئيسي بضرب السياحة ليس السائحين، ولكن المساس بالسياحة كصناعة، الإصابات بين المواطنين المدنيين كانت عارضة، ولم يكن المدنيون مستهدفين. من الناحية الفنية، استخدمت الجماعة الإسلامية أسلحة آلية، أو طبنجات أو أسلحة بيضاء في عملياتها، ولم تستخدم متفجرات.
أما تنظيم الجهاد، فقد استخدم متفجرات في عمليات قليلة، سواء الناجحة أو الفاشلة، مثل محاولة اغتيال عاطف صدقي التي إستخدم فيها متفجرات بالتحكم عن بعد <ريموت كنترول>، ومحاولة اغتيال حسن الألفي كان فيها عنصران انتحاريان، لأول مرة، محاولة اغتيال رئيس الجمهورية في نفق العروبة كان النفق فيها مفخخا، ولكن التنظيم لم يستخدم أسلوب التفجيرات العشوائية.
وقد حدثت ثلاثة تفجيرات عشوائية في هذه الفترة، هي تفجير مقهى وادي النيل في مصر بالتحرير، وتفجير موقف أتوبيس بجوار قسم الأزبكية، وتفجير موقف أتوبيس في شبرا بجوار قسم الساحل، في مواجهة موقف المنوفية بالخازندارة، وقد نفت الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد أي صلة لهما بها.
وهناك حديث لأيمن الظواهري في عام 1993 نفى فيه بشدة أي صلة بها، واتهم الموساد، وكذلك الجماعة الإسلامية أصدرت وثيقة كبيرة اتهمت فيها الموساد بارتكاب هذه الأحداث، وللمفارقة، فإن هذه هي الأحداث الثلاثة الوحيدة في تاريخ الإرهاب في مصر التي لم يقدم فيها أحد للمحاكمة. عموما هذه الموجة انتهت بكارثة مذبحة الأقصر في نوفمبر 1997، والتى قام بها جناح منشق خارج عن الجماعة الإسلامية، التى لم تكن تعلم بقرار مبادرة وقف العنف الذى أخذ فى يوليو 1997، وكانت مطاردة فى جبال الصعيد، وقامت بمذبحة ضد المدنيين الأبرياء وحوالى 60 سائحا أجنبيا وبعض المصريين وضبطت فيها البنادق الآلية.
هذه الموجة انتهت عام 97 وتوقف العنف في مصر تقريبا حتى أكتوبر 2004، حيث شهدنا فجأة أمورا مختلفة من حيث المكان، مختلفة من حيث الأدوات ومن حيث المستهدفون.
1- من حيث المكان وعلى خلاف كل موجات العنف السابقة، ظهرت الموجة الأخيرة في أطراف مصر بعيدا عن الكثافة السكانية، جنوب سيناء محافظة يقطنها فقط 80 ألف مواطن.
2- كان المستهدفون من المدنيين فلم تستهدف هذه التفجيرات الدولة أو الشرطة، ولا مسؤولين سياسيين كبارا، وكان الهدف الرئيسي هو قتل المدنيين، هذا على خلاف الموجة الأولى. وقد استخدم فيها أكبر كميات ممكنة من المتفجرات، وانتحاريين في نفس الوقت وهى وسائل مختلفة عما سبق.
إذن فمن الخطأ وصف هذه الأحداث الأخيرة بأنها عودة الإرهاب لمصر، فهذه عمليات في جزء من سيناء، وليست حتى سيناء كلها.
وفي دراسته الموسومة: «العنف السياسي بين الاسلاميين والدولة الحديثة..قراءة في اسباب الظاهرة» يرجع برير العبادي وقوع أحداث العنف في مصر منذ وقوع حادث الكلية الفنية العسكرية في مصر عام 1974، ثم ظهور حركة التكفير والهجرة «جماعة المسلمين»، والجهاد الاسلامي التي اغتالت السادات عام 1981 والجماعة الإسلامية، إلى الجذور الفكرية التي سبقت انتشار العنف , ويعتبر كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد فرج عبدالسلام الذي اعدم في قضية اغتيال السادات الوثيقة الفكرية الرئيسة لجماعة الجهاد، وكذلك البحث المعنون «حكم قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام وحتمية المواجهة الصادر عن الجماعة الإسلامية، من النصوص الاساسية التي عادة ما يرجع اليها الباحثون «لاكتشاف» الجذور الفكرية للعنف الاسلامي. ويضيف الكاتب: «ان العودة إلى مراجعة هذه النصوص تقود حتماً إلى بيان تأثير فكرة «الحاكمية» وتكفير الحاكم المبدل لشرع الله وخروجه عن ملة الإسلام، بالاضافة إلى ممارسة اسمى الفرائض، فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الحاكم الظالم الممتنع عن تطبيق شرع الله. وهذه الافكار تحدد بشكل حاسم الموقف العملي من النظام العلماني الذي يرتبط بالغرب «الكافر الصليبي» والذي يستخدم القوة والعنف في مواجهة الداعين إلى حكم الإسلام ولا يتمثل لمنطق النصيحة والموعظة في ذلك.
ولا تختلف الحركات الإسلامية جميعها مع هذا الفكر إلاّ ان بعضها لا يرى قضية التصدي باليد لتغيير النظام الحاكم ويلتزم بالشرط الذي وضعه فقهاء سابقون وهو عدم الدخول في الفتنة لان شرور الثورة وسلبياتها تطغى على سلبيات الظلم، وهذه النقطة تتضمن مجال اختلاف كبير بين الاسلاميين، ذلك لان احكام الفقهاء القدامى اخذت بنظر الاعتبار ظروف الواقع السابق وهو انتماء الحاكم إلى المرجعية الإسلامية حتى وان كان ظالماً .
والمعروف أن الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، كانتا تتبنيان رؤية فكرية وحركية واحدة فيما يخص أهداف عنفهما تلخصها مقولة مؤلف كتاب «الجهاد: الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج ذو التأثير المباشر والعميق على الجماعتين حتى منتصف التسعينيات تقريباً، وهي أن «العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد». وتعني تلك المقولة من الناحية العملية أن الجماعتين كانتا تجدان في الحكومة المصرية «العدو القريب» والوحيد الذي يجب أن يتوجه إليه عنفهما سعياً إلى الإطاحة بها والاستيلاء على السلطة بدلاً منها ومن ثم تأسيس دولة إسلامية وإعادة أسلمة المجتمع المصري كله. وقد تعرضت تلك الرؤية النظرية والحركية لهزة كبرى مع إعلان مبادرة الجماعة الإسلامية وقرارها بالتوقف عن العنف والتحول لجماعة سياسية ـ اجتماعية، وبخاصة مع انضمام عدد كبير من قيادات وأعضاء الجهاد المقيمين الموجودين في السجون إلى مبادرة الجماعة بعد أيام من إعلانها في الخامس من يوليو1997.
ويقدم أليكس دي وال محرر كتاب «الإسلاموية وأعداؤها في القرن الإفريقي» الصادر عن (هيرست أند كومباني لندن، 2004)، تأصيلا لفكر الجماعات الإسلامية في مصر والسودان وعلاقته بالواقع من خلال مفهوم الجهاد بالقول أن فكرة الجهاد تحولت إلى أمر مطلق، منفصل عن ملابسات الزمان والمكان، فهو دعوة إلى تحويل وجهة النظر السياسية إلى حقيقة مطلقة، وجعل القتل والتدمير أدوات مشروعة للانتصار للبرنامج السياسي، وإلى التحلل من المسؤولية الفردية باعتبار أن أعمال الفرد ليست إلا تنفيذا لأمر إلهي.
ويضيف دي وال : أن فكرة سيد قطب عن الجهاد، مارست تأثيرا كاسحا لدى الحركات الإسلامية اللاحقة. رددها مباشرة محمد عبد السلام فرج بعد قتل السادات: « لسنا مسؤولين عن النتائج» إننا فقط ننفذ إرادة الله. ثم عملت على هديها الجماعة الإسلامية في ريف مصر ومدنها طوال التسعينات، وكانت عناصرها من «الأفغان العرب» العائدين من أفغانستان، بمستويات وعيهم المتدني وقسوتهم، قد وضعت البلاد على شفا الحرب الأهلية. واستند إليها منظر الجهاد الأفغاني عبد الله عزام ولكنه وسّع قاعدتها بأن جعل الجهاد واجبا على كل مسلم، كما وضع لها أهدافا محددة هي استعادة كل الأراضي التي أخذت من المسملين عبر التاريخ .
وهذا يفسر غياب المشروع السياسي المتكامل للجماعة الإسلامية، لبناء مجتمع بديل، بمواصفات معلومة للجميع ومطروحة للأخذ والرد.وكان اقصى ما بلغته الجماعة الإسلامية على مستوى البرنامج السياسي العام هو شعار: الإسلام هو الحل. مع أنها كانت تعلم تمام العلم، أنه إذا اصطف مائة سياسي وطلب من كل واحد منهم ترجمة هذا الشعار إلى برنامج سياسي لأتوا بمائة برنامج، كل يخالف الآخر إن لم يتناقض معه. وتكفي الخلافات القائمة بين هذه الحركات ذاتها دليلا على صحة هذا القول.
لكن الكتاب يشير في أكثر من موقع إلى نجاح هذه الحركات على مستوى «الحلول الصغيرة» والجزئية. ويضرب عدة أمثلة على ذلك، أبرزها الجهود التي قامت بها بعض هذه المنظمات أثناء الزلزال المصري عام 1992، وتقديمها خدمات أساسية للمنكوبين من خيام وأطعمة وأدوية، بسرعة وكفاءة عجزت عنهما البيروقراطية الحكومية المصرية. كما يقدم ممثلو هذه الحركات في القطاع المدني، خدمات كبيرة في مجالات التعليم، وخاصة الجامعي، والصحة والخدمات الطبية، وخاصة في الأحياء الفقيرة، والعون القانوني للفقراء وغير ذلك. وبفضل هذه الجهود التي يحسها الناس في حياتهم اليومية، تمكنت هذه الجماعات من الفوز في انتخابات أهم الاتحادات والنقابات المهنية في مصر، وهي جمعيات ومنظمات ذات وزن كبير. ولكن هل يمكن أن نقول نتيجة لذلك إن هذه الجماعات يمكن أن تساهم في بناء «مجتمع مدني» معافى ومزدهر؟
بعد انفصال الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد عام 1983، مرت الجماعة الإسلامية بفترة من العمل العلني الدعوي امتدت حتى عام 1988، وخلال هذه السنوات أحرزت نجاحا كبيرا، وخلال تلك بدأت تتبلور فكرة المواجهة مع الدولة من خلال أدبيات أشهرها كتاب «ميثاق العمل الإسلامي» الذي كتبه ناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة، وأبحاث أخرى مثل: «حتمية المواجهة»، و«وجوب قتال الطائفة الممتنعة». وحسب الدكتور محمد مورو فإن محاولتي اغتيال وزيري الداخلية السابقين اللواء حسن أبو باشا، واللواء زكي بدر ثم محاولة اغتيال الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد (1987) كانت من أم أسباب الصدام. إذ تعرضت الجماعة الإسلامية عقب هذه الحوادث إلى حملة اعتقالات.
وفي الثاني من أغسطس عام 1990 اغتالت أجهزة الأمن الدكتور علاء محي الدين المتحدث باسم الجماعة الإسلامية، ودارت عجلة العنف فأصدرت الجماعة بيانا جاء فيه: «آن الأوان ليسكت الكلام ويتكلم الرصاص». وتبادل الطرفان حوادث الاغتيال، فاغتالت الأجهزة الأمنية عددا من قيادات الجماعة وردت الجماعة باغتيال عدد كبير من رجال الشرطة في القاهرة ومحافظات جنوب مصر . وجاءت عملية الدير البحري بالأقصر في السابع عشر من نوفمبر عام 1997 لتكون نهاية مأساوية لقصة دامية سقط فيها عدد كبير من القتلى من الطرفين.
سرقة الذهب للتمويل
لجأ تنظيم الجماعة الإسلامية لاستمرارية نشاطه إلى كسب الأعضاء الجدد، كما لجأ إلى طرق مختلفة أخرى للتمويل مثل إقامة أسواق خيرية لبيع السلع وبيع الكتب الدراسية والدينية والزي الإسلامي للطالبات, وتطورت الحاجة للتمويل، وبناء على فتاوى استحلال أموال النصارى المحاربين كانت أولى العمليات القتالية للتنظيم بالاستيلاء على المشغولات الذهبية ببعض محلات بيع الذهب التي يملكها نصارى بمدينة نجع جمادى في صعيد مصر والاستيلاء أيضا على إيراداتها المالية.
وقاد تلك العملية علي الشريف حيث جرى اقتحام محلين للذهب على النحو الذي سبق ذكره، وفي ضوء تصاعد وتيرة الخلاف بين السادات والتيار الإسلامي في عمومه وإصداره قرارات التحفظ على العديد من قيادات وأعضاء هذا التنظيم جاءت عملية اغتيال السادات في السادس من أكتوبر 1981 وبعد اغتيال السادات، اتفق جناح الوجه القبلي للجماعة الإسلامية على مواصلة العمل الرامي لقلب نظام الحكم باستهداف خمسة أهداف للأمن في أسيوط هي مديرية الأمن هناك وقسم ثان والدورية اللاسلكية ومباحث أمن الدولة والمباحث الجنائية ونقطة شرطة إبراهيم، ثم الزحف بعد ذلك لمحافظات الوجه البحري وتثوير الجماهير.
وقاد العملية علي الشريف وعاصم عبد الماجد، وتم اقتحام مديرية الأمن وقتل فيها عدد كبير من الضباط والجنود وتم فتح النار أيضا على بعض سيارات الأمن المركزي التي كانت تحمل الجنود في الميادين والشوارع العامة بأسيوط، كما تم اقتحام نقطة شرطة إبراهيم، لكن إصابات دربالة التي أدت لبتر يده اليمنى وعلي الشريف في بطنه إصابات شديدة أدت إلى فشل المخطط والقبض عليهم أحياء ومعهم كرم زهدي وترحيلهم في طائرة خاصة للقاهرة بصحبة وزير الداخلية آنذاك اللواء النبوي إسماعيل.
وكان اغتيال الدكتور علاء محيى الدين الناطق الرسمي للجماعة عام 1990 دافعا للجماعة في استمرار عمليات الثأر والانتقام ضد رموز النظام المصري. فبادرت باغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك، وكان ممدوح علي يوسف أحد أبرز قيادات الجماعة هو المتهم الأول في قضية اغتيال المحجوب.
وخلال فترة التسعينيات شهدت مصر محاولات اغتيال مختلفة لمسؤولين سياسيين من بينها محاولة اغتيال وزير الإعلام المصري السابق «صفوت الشريف» ورئيس الوزراء الأسبق «عاطف صدقي»، كما تعرض عدد من الكتاب والأدباء والمثقفين أيضاً لمحاولات اغتيال، فقد حاول بعض العناصر الإرهابية اغتيال الأديب المصري المشهور «نجيب محفوظ» الذي توفى مؤخرا، في حين نجحت في اغتيال الكاتب الدكتور فرج فودة، بالإضافة إلى الحوادث الإرهابية المتعددة التي شهدتها مصر ولاسيما في جنوب البلاد خلال هذه الفترة، ومن بين تلك الأحداث جريمة اقتحام كنيسة «مارجرجس» بأي قرقاص في فبراير1996، مما أسفر عن مصرع ثمانية من الأقباط، وكذلك الهجوم السافر الذي شنه إرهابيون على قرية بهجورة في مارس 1997 والذي أدى إلى مقتل 14 شخصاً من بينهم تسعة من الأقباط، وهناك واقعة الاعتداء على متحف التحرير في سبتمبر1997 والتي أسفرت عن مصرع 9 من السائحين الأجانب .
فكر يؤدي للعنف
يقول الدكتور ضياء رشوان الخبير في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام وأحد البارزين في دراسة الجماعات الإسلامية أن مصر شهدت موجتين إرهابيتين، الأولى موجة ممتدة وهذه بدأت باغتيال الرئيس السادات، وانتهت عام 1997. وعلى خلاف الموجات التى تبدأ من تحت وتصعد، فهذه الموجة بدأت من القمة، وكانت هناك أسباب سياسية وعامة فى المجتمع أدت إلى ذلك، ثم هدأت هذه الموجة. وبين عامى 81 و87، لم نشهد سوى أحداث طفيفة، ثم بدأت تشتد مرة أخرى منذ عام 87 بمحاولة اغتيال الكاتب الصحفى الأستاذ مكرم محمد أحمد، ثم محاولة اغتيال وزير الداخلية النبوى إسماعيل، وقويت بشدة عام 1992، بأحداث الصعيد مع الأقباط، واستمرت إلى نوفمبر 97 وهو تاريخ مذبحة الأقصر، وكانت تتسم بشكل محدد، هو أن القائمين عليها هما الجماعة الإسلامية والجهاد، الجماعتان الكبيرتان في مصر للعنف الإسلامى.
ويضيف رشوان : أن الجماعة الإسلامية قامت بأكثر من 95% من الأحداث، والجهاد قامت بـ 5% فقط، وقد انطلقت الجماعتان من مبدأ واحد وهو الجهاد الداخلي ضد العدو القريب، ممثلا في الحكومة المصرية، وبالتالي، كانت الفكرة الانقلابية هي المسيطرة عليها، أي الاستيلاء على الحكم بالقوة. وكانت الأهداف التي يتم التعامل معها بالأساس أهدافا حكومية سواء كانوا مسؤولين كبارا مثل محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء ووزير الإعلام ووزير الداخلية، أو برجال الشرطة أو بضرب صناعة السياحة. وكان الهدف الرئيسي بضرب السياحة ليس السائحين، ولكن المساس بالسياحة كصناعة، الإصابات بين المواطنين المدنيين كانت عارضة، ولم يكن المدنيون مستهدفين. من الناحية الفنية، استخدمت الجماعة الإسلامية أسلحة آلية، أو طبنجات أو أسلحة بيضاء في عملياتها، ولم تستخدم متفجرات.
أما تنظيم الجهاد، فقد استخدم متفجرات في عمليات قليلة، سواء الناجحة أو الفاشلة، مثل محاولة اغتيال عاطف صدقي التي إستخدم فيها متفجرات بالتحكم عن بعد <ريموت كنترول>، ومحاولة اغتيال حسن الألفي كان فيها عنصران انتحاريان، لأول مرة، محاولة اغتيال رئيس الجمهورية في نفق العروبة كان النفق فيها مفخخا، ولكن التنظيم لم يستخدم أسلوب التفجيرات العشوائية.
وقد حدثت ثلاثة تفجيرات عشوائية في هذه الفترة، هي تفجير مقهى وادي النيل في مصر بالتحرير، وتفجير موقف أتوبيس بجوار قسم الأزبكية، وتفجير موقف أتوبيس في شبرا بجوار قسم الساحل، في مواجهة موقف المنوفية بالخازندارة، وقد نفت الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد أي صلة لهما بها.
وهناك حديث لأيمن الظواهري في عام 1993 نفى فيه بشدة أي صلة بها، واتهم الموساد، وكذلك الجماعة الإسلامية أصدرت وثيقة كبيرة اتهمت فيها الموساد بارتكاب هذه الأحداث، وللمفارقة، فإن هذه هي الأحداث الثلاثة الوحيدة في تاريخ الإرهاب في مصر التي لم يقدم فيها أحد للمحاكمة. عموما هذه الموجة انتهت بكارثة مذبحة الأقصر في نوفمبر 1997، والتى قام بها جناح منشق خارج عن الجماعة الإسلامية، التى لم تكن تعلم بقرار مبادرة وقف العنف الذى أخذ فى يوليو 1997، وكانت مطاردة فى جبال الصعيد، وقامت بمذبحة ضد المدنيين الأبرياء وحوالى 60 سائحا أجنبيا وبعض المصريين وضبطت فيها البنادق الآلية.
هذه الموجة انتهت عام 97 وتوقف العنف في مصر تقريبا حتى أكتوبر 2004، حيث شهدنا فجأة أمورا مختلفة من حيث المكان، مختلفة من حيث الأدوات ومن حيث المستهدفون.
1- من حيث المكان وعلى خلاف كل موجات العنف السابقة، ظهرت الموجة الأخيرة في أطراف مصر بعيدا عن الكثافة السكانية، جنوب سيناء محافظة يقطنها فقط 80 ألف مواطن.
2- كان المستهدفون من المدنيين فلم تستهدف هذه التفجيرات الدولة أو الشرطة، ولا مسؤولين سياسيين كبارا، وكان الهدف الرئيسي هو قتل المدنيين، هذا على خلاف الموجة الأولى. وقد استخدم فيها أكبر كميات ممكنة من المتفجرات، وانتحاريين في نفس الوقت وهى وسائل مختلفة عما سبق.
إذن فمن الخطأ وصف هذه الأحداث الأخيرة بأنها عودة الإرهاب لمصر، فهذه عمليات في جزء من سيناء، وليست حتى سيناء كلها.
وفي دراسته الموسومة: «العنف السياسي بين الاسلاميين والدولة الحديثة..قراءة في اسباب الظاهرة» يرجع برير العبادي وقوع أحداث العنف في مصر منذ وقوع حادث الكلية الفنية العسكرية في مصر عام 1974، ثم ظهور حركة التكفير والهجرة «جماعة المسلمين»، والجهاد الاسلامي التي اغتالت السادات عام 1981 والجماعة الإسلامية، إلى الجذور الفكرية التي سبقت انتشار العنف , ويعتبر كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد فرج عبدالسلام الذي اعدم في قضية اغتيال السادات الوثيقة الفكرية الرئيسة لجماعة الجهاد، وكذلك البحث المعنون «حكم قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام وحتمية المواجهة الصادر عن الجماعة الإسلامية، من النصوص الاساسية التي عادة ما يرجع اليها الباحثون «لاكتشاف» الجذور الفكرية للعنف الاسلامي. ويضيف الكاتب: «ان العودة إلى مراجعة هذه النصوص تقود حتماً إلى بيان تأثير فكرة «الحاكمية» وتكفير الحاكم المبدل لشرع الله وخروجه عن ملة الإسلام، بالاضافة إلى ممارسة اسمى الفرائض، فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الحاكم الظالم الممتنع عن تطبيق شرع الله. وهذه الافكار تحدد بشكل حاسم الموقف العملي من النظام العلماني الذي يرتبط بالغرب «الكافر الصليبي» والذي يستخدم القوة والعنف في مواجهة الداعين إلى حكم الإسلام ولا يتمثل لمنطق النصيحة والموعظة في ذلك.
ولا تختلف الحركات الإسلامية جميعها مع هذا الفكر إلاّ ان بعضها لا يرى قضية التصدي باليد لتغيير النظام الحاكم ويلتزم بالشرط الذي وضعه فقهاء سابقون وهو عدم الدخول في الفتنة لان شرور الثورة وسلبياتها تطغى على سلبيات الظلم، وهذه النقطة تتضمن مجال اختلاف كبير بين الاسلاميين، ذلك لان احكام الفقهاء القدامى اخذت بنظر الاعتبار ظروف الواقع السابق وهو انتماء الحاكم إلى المرجعية الإسلامية حتى وان كان ظالماً .
والمعروف أن الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، كانتا تتبنيان رؤية فكرية وحركية واحدة فيما يخص أهداف عنفهما تلخصها مقولة مؤلف كتاب «الجهاد: الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج ذو التأثير المباشر والعميق على الجماعتين حتى منتصف التسعينيات تقريباً، وهي أن «العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد». وتعني تلك المقولة من الناحية العملية أن الجماعتين كانتا تجدان في الحكومة المصرية «العدو القريب» والوحيد الذي يجب أن يتوجه إليه عنفهما سعياً إلى الإطاحة بها والاستيلاء على السلطة بدلاً منها ومن ثم تأسيس دولة إسلامية وإعادة أسلمة المجتمع المصري كله. وقد تعرضت تلك الرؤية النظرية والحركية لهزة كبرى مع إعلان مبادرة الجماعة الإسلامية وقرارها بالتوقف عن العنف والتحول لجماعة سياسية ـ اجتماعية، وبخاصة مع انضمام عدد كبير من قيادات وأعضاء الجهاد المقيمين الموجودين في السجون إلى مبادرة الجماعة بعد أيام من إعلانها في الخامس من يوليو1997.
ويقدم أليكس دي وال محرر كتاب «الإسلاموية وأعداؤها في القرن الإفريقي» الصادر عن (هيرست أند كومباني لندن، 2004)، تأصيلا لفكر الجماعات الإسلامية في مصر والسودان وعلاقته بالواقع من خلال مفهوم الجهاد بالقول أن فكرة الجهاد تحولت إلى أمر مطلق، منفصل عن ملابسات الزمان والمكان، فهو دعوة إلى تحويل وجهة النظر السياسية إلى حقيقة مطلقة، وجعل القتل والتدمير أدوات مشروعة للانتصار للبرنامج السياسي، وإلى التحلل من المسؤولية الفردية باعتبار أن أعمال الفرد ليست إلا تنفيذا لأمر إلهي.
ويضيف دي وال : أن فكرة سيد قطب عن الجهاد، مارست تأثيرا كاسحا لدى الحركات الإسلامية اللاحقة. رددها مباشرة محمد عبد السلام فرج بعد قتل السادات: « لسنا مسؤولين عن النتائج» إننا فقط ننفذ إرادة الله. ثم عملت على هديها الجماعة الإسلامية في ريف مصر ومدنها طوال التسعينات، وكانت عناصرها من «الأفغان العرب» العائدين من أفغانستان، بمستويات وعيهم المتدني وقسوتهم، قد وضعت البلاد على شفا الحرب الأهلية. واستند إليها منظر الجهاد الأفغاني عبد الله عزام ولكنه وسّع قاعدتها بأن جعل الجهاد واجبا على كل مسلم، كما وضع لها أهدافا محددة هي استعادة كل الأراضي التي أخذت من المسملين عبر التاريخ .
وهذا يفسر غياب المشروع السياسي المتكامل للجماعة الإسلامية، لبناء مجتمع بديل، بمواصفات معلومة للجميع ومطروحة للأخذ والرد.وكان اقصى ما بلغته الجماعة الإسلامية على مستوى البرنامج السياسي العام هو شعار: الإسلام هو الحل. مع أنها كانت تعلم تمام العلم، أنه إذا اصطف مائة سياسي وطلب من كل واحد منهم ترجمة هذا الشعار إلى برنامج سياسي لأتوا بمائة برنامج، كل يخالف الآخر إن لم يتناقض معه. وتكفي الخلافات القائمة بين هذه الحركات ذاتها دليلا على صحة هذا القول.
لكن الكتاب يشير في أكثر من موقع إلى نجاح هذه الحركات على مستوى «الحلول الصغيرة» والجزئية. ويضرب عدة أمثلة على ذلك، أبرزها الجهود التي قامت بها بعض هذه المنظمات أثناء الزلزال المصري عام 1992، وتقديمها خدمات أساسية للمنكوبين من خيام وأطعمة وأدوية، بسرعة وكفاءة عجزت عنهما البيروقراطية الحكومية المصرية. كما يقدم ممثلو هذه الحركات في القطاع المدني، خدمات كبيرة في مجالات التعليم، وخاصة الجامعي، والصحة والخدمات الطبية، وخاصة في الأحياء الفقيرة، والعون القانوني للفقراء وغير ذلك. وبفضل هذه الجهود التي يحسها الناس في حياتهم اليومية، تمكنت هذه الجماعات من الفوز في انتخابات أهم الاتحادات والنقابات المهنية في مصر، وهي جمعيات ومنظمات ذات وزن كبير. ولكن هل يمكن أن نقول نتيجة لذلك إن هذه الجماعات يمكن أن تساهم في بناء «مجتمع مدني» معافى ومزدهر؟